يصدق المواطنون السذج الجائعون كل مسرحيات الاصلاح، يصفقون لها بعد أن يلعب الإعلام دوره في تلميعها . لكن هل سيشمل الإصلاح كل مواطن الفساد، ام سيقتصر على سلامة الغذاء وعلى حفنة من رسوم؟ إن الغذاء المسمم سوف يلحق الضرر بآكليه، قليلون كانوا أم كثر. لكن التسمم المشبع في المفاهيم والقيم وقواعد السلوك في الحكم والرقابة والقضاء والصحافة، هو ما يهدد مصير أمة في حالها.

لبنان المنقسم طائفياً وحزبياً، والمحكوم منذ نهاية الحرب الأهلية وإتفاق الطائف من قبل أمراء الحرب الذين توارثوا المقاعد النيابية والوزارية، والذين أدخلوا الفساد إلى كل مكونات الدولة من إدارات عامة ومؤسسات عامة وخاصة، وهم من أهملوا دور الرقابة وابتعدوا عن محاسبة الفاسدين وفضّلوا مصالحهم الشخصية على المصلحة العامة، هم انفسهم اليوم من يتنافسون على فضح الفساد ومحاسبة الفاسدين محاولين إصلاح كل ما أفسدوه عبر السنوات الماضية.

غريب أمر الإصلاحيين الجدد، والأغرب الأغرب هو موقف المواطنين المبهورين بالمبادرات الإصلاحية، وثمة ما هو أشد غرابة و هو دور الإعلام، أو بعضه، في التلقي السلبي والتلقف الساذج، ليس للمبادرات الاصلاحية الراهنة فقط، بل لغيرها من الأحداث والمبادرات.

منذ اتفاق الطائف والبلد موزع بشعبه وموارده وسلطاته بين أمراء الحرب، الرابح منهم والمنهزم. هم يمثلون الشعب في المجلس النيابي وهم يشكلون الحكومة. هم يمارسون السلطة، وهم يلعبون دور المعارضة. هم الرقيب والحسيب، وهم المراقب والمحاسب في آن.

من دون أي تسمية، ومن دون استثناءات، أين دور النواب الذين ينتمي اليهم كل الوزراء المتعاقبين على الوزارت المختلفة منذ الطائف إلى اليوم؟ كل قوانين الضرائب أقرت في مجلسهم الكريم، وكل أملاك الدولة المهدورة إنما هدرت أمام أعينهم. قانون الأثراء غير المشروع الذي – في صيغته العتيدة – يشجع على الإثراء غير المشروع، وهو من بنات أفكارهم النيرة.

اتفاقية الطائف في لبنان

هم يعينون القضاة خلافا للأصول، وهم يمارسون عليهم الضغوط إذا ما مس مصالحهم أو مصالح أزلامهم الحق وليس السوء ، لأن الحق هو خصمهم الأول . هم يفرضون الموظفين غير الأكفاء وهم يشكون من تخلف الإدارة، هم يشاركون الحيتان الكبيرة في أكل المال العام، ثم يؤمنون لها الحماية السياسية ، وفي النهاية هم يشكون من الفساد .

خلافا للأصول صار مجلس النواب شريكا في الحكم فانتهت بذلك المعارضة وانتهى الحكم. خلافا للأصول صار رئيس الجمهورية شريك أيضا فانتهى بذلك دوره كحكم. الكل يريد نصيبه من الجبنة ، والكل يحاضر في الإصلاح .

خلافا للأصول وللمنطق وللبداهة، يصدق المواطنون السذج الجائعون كل مسرحيات الاصلاح، يصفقون لها بعد أن يلعب الإعلام دوره في تلميعها . وهنا يجدر بنا التوضيح، بأن ما يجري هو فعلا أمر مطلوب وهو في محله، لكن ما نرمي إليه، هو هل سيشمل الإصلاح كل مواطن الفساد، هل سيقتصر الأمر على سلامة الغذاء وعلى حفنة من رسوم؟ إن الغذاء المسمم سوف يلحق الضرر بآكليه، قليلون كانوا أم كثر. لكن التسمم المشبع في المفاهيم والقيم وقواعد السلوك في الحكم والرقابة والقضاء والصحافة، هو ما يهدد مصير أمة في حالها.

في الأخير نستحضر المذهب الفلسفي القائل: لا يصدر عن الشبيه إلا الشبيه، لنصل إلى خلاصة أن لا أحد يوقع مرسوم إعدامه بيده.