من نوافل الحديث، الكلام عن عراقة الصحافة اللبنانية وحرفيتها، كذلك عن إسهامها في إغناء الصحافة العربية سواء بالكوادر الصحفية والأقلام الملهمة، أم بالميزة التي تفرد بها لبنان كقيمة وسلوك، والتي هي الحرية في جميع ميادينها وآفاقها. إلا أن عدم الإستقرار اللبناني، وانفتاح الساحة اللبنانية بأرضها وناسها على مشاكل الآخرين، استيرادا وتصديرا، أفقد تلك الصحافة جزءا كبيرا من استقلاليتها وبالتالي حريتها فمصداقيتها.
إستقدمت الحرب الأهلية اللبنانية مموليها، فمولوا الأحزاب المتناحرة واستأجروا لاستكمال حركة التدخل والتأثير أقلاما وصحفا، وعند دخول التلفزيون إلى ساحة المنافسة، لم تسلم شاشاته من لعبة الإرتزاق والعمل بالأجرة رغم كل المحاذير الأخلاقية والمهنية التي تنطوي عليها علاقة الصحافة بطرف أو دولة أجنبية، صديقة كانت أم عدوة.
بعد اتفاق الطائف جرى تقاسم تراخيص البث التلفزيوني بين أمراء الحرب والمذاهب، فكانت الشاشات هي متاريس الحرب الجديدة، وكان للراعي السوري دور الوصاية سواء في المنح او المنع وكذلك في الرقابة البوليسية المتشددة التي سلبت حرية العمل الصافي وجردته من حرية التعبير حتى باتت المحطات التلفزيونية وكأنها تبث خبرا واحدا موحدا، لكن بطرق وأساليب مختلفة، في استكمال فاضح لمؤامرة نسف التعددية اللبنانية، حتى في وجهها الصحافي، وإلا، فالإقفال بالشمع الأحمر بقرار من السلطة اللبنانية الرديفة، التي لم يكن قضاؤها حين ذاك أقل طواعية من معظم أهل الصحافة والصحافيين.
بعد زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، تشكل اصطفاف داخلي مختلف، هجين التركيب، صعب التفكيك، متناقض المشارب والمآرب. وكان الإعلام الرقمي قد خطى خطاه داخل المجتمع اللبناني، متوجا بتدخل خطير لوسائط التواصل الإجتماعي بمختلف منصاته ومنابره.
وبما أن الإصطفاف اللآنف الذكر كان في شكله سياسيا غي طائفي، صار لزاما على الأطراف المتصارعة، لا المتنافسة، أن تنتهج سياسة الإختراق المذهبي السياسي في صفوف بعضها البعض، فكان لكل من فريقي 8 و 14 آذار أبواقة الإعلامية، لا إعلامييه. وحيث كان الإختراق المذكور اختراقا طائفيا ومذهبية، صار لكل محور شتاميه ومحلليه وأبواقه، فلا يشتم السني إلا سنيا ولا يعارض الشيعي إلا شيعيا، وعلى هذا قس ما سواه. ولتحصين ذلك الخرق وتحسينه، كان المال عصب الإنتماء المستجد فولدت مراكز التحليل والتوثيق والدراسات.
اليوم، وفي ذروة التأزم الإقليمي والدولي، تترنح الصحافة اللبنانية على وتر التمويل فالتدجين والبقاء للأكثر ملاءة وتمويلا وتهويلا، فمنها ما أسقطه الشح، ومنها ما أسقطه الفحش، وأسقط معها كل قيم النزاهة والصدق والمهنية. وما زاد الطين بلة، وبعد غياب وسائل وآليات الإستقطاب الأستزلامية والنفعية، طغى على وجه المستنقع اللبناني خطاب الفئوية العفة، وعادت ال (نحن) المتعالية بالجينات حينا وبالقوة أحيانا لتكتسح المشهد سبا وشتما وتخوينا.