في ذكرى السيد المرجع

بينما كنت استمع بالصدفة إلى محاضرة له على الراديو، لفت انتباهي عرض المرجع الإسلامي الراحل السيد محمد حسين فضل الله (رض) لوقائع الآية الكريمة التي طلب فيها سيدنا موسى (ع) أن يريه الله كيف يحيي الموتى، وأن ذلك الطلب لم يكن ناتجا عن كفر النبي المعصوم أو تشكيكه في القدرة الإلهية، بل كان لإطمئنان قلبه(أولم تؤمن، قال بلى ولكن ليطمئن قلبي). المرجع الراحل رأى ذلك حوارا مشروعا بين الله تعالى وبين رسوله وانطلق من هذه المسلمة الثابتة بالنص ليدعو الإنسان الى الحوار مع الآخر بدءا من الرسول مرورا بالقائد السياسي والإجتماعي فرجل الدين ووصولا الى القرين النّد.

كان ذلك الحديث دافعا لي لأطلب موعدا للقاء السيد المرجع، وكان لي ذلك. أعربت للسيد الراحل بأن ما سمعته في تلك المحاضره هو بمثابة ثورة صريحة على حالة الركود والتحجر والصنمية والشخصانية التي تعتري الحالات والحركات وحتى معظم المذاهب الإسلامية، فأكد لي رضوان الله عليه على حركية الإسلام وتجدده إزاء القضايا المختلفة وفي مختلف العصور ، وأن لا حقيقة مطلقة محرمة عن النقاش العقلي ، فالحقيقة هي بنت الحوار . لم يقفل أمامي أي باب ولم يحرم علي أي سؤال. استمع إلى أسئلتي بابتسامة أبوية سموحة وأجاب عليها بعمق ودقة وحزم تفرضه هيبة السيد المرجع .

أدركت في تلك الزيارة أكثر من سابقاتها حقيقة ما يندمج عليه هذا العالم الرباني الكبير من مكنون العلم وسعة الأفق وحسّ المسؤولية المرهف في مقاربة القضايا والإشكاليات المختلفة .

اليوم، وفي الذكرى الثانية لرحيله، نستشعر حجم الخسارة التي شكها غيابه عن الساحة الإسلامية عموما وعن الساحة اللبنانية خصوصا. فقد أكد (رض) في حركة الوعي المتقدم والفهم العميق للظواهر والأحداث أنه استطاع أن يوائم بين أصوليته الدينية كمجتهد ومرجع، وبين انفتاحه على مجمل القضايا المعاصرة لا سيما منها تلك المتصلة بالإشكاليات العلمية المستحدثة وقضايا الشباب، وكذلك انفتاحه على الآخر المختلف واستعداده المسؤول للحوار والبحث من أجل الوصول إلى الحقائق الدينية والعلمية التي تصب في مصلحة الإنسان بوجه عام.

بين واقع اليوم وذكرى الأمس يبقى الأمل موجودا بأن تخرج كل الحلات الدينية وكذلك المرجعيات لأي دين أو مذهب انتمت، من الزوايا المحدودة ومن ركام التاريخ المتراكم ،غثّه وسمينه،لتنفتح على فضاء الإنسانية الأرحب، حيث لا تزال الفرصة سانحة أمام مستقبل هادئ نعيش فيه مختلفين وموحدين في البحث الموضوعي عن الحقيقة كل كما يرى ، دون أن يؤدى ذلك إلى  الحقد والتكفير  والقتل.

منذ عامين غاب سماحة العلامة المرجع ، وبقي علمه ومرجعيته الدينية والأخلاقية والوطنية حاضرة في وجدان كل المؤمنين، بل حتى في قلوب الملحدين الذين رأوا الصورة المشرقة التي جهد السيد الراحل في تقديمها عن الإسلام . بقي حاضرا في عقول كل الباحثين عن الحقيقة، في بسمة كل يتيم وكل محتاج وكل معوق وكل مسن لم يوفر السيد الراحل جهدا من أجل مساعدتهم وحمايتهم انطلاقا من أن حفظ كرامة الإنسان واجب لا يعلا عليه.

سامي الجواد