جدلية العلاقة بين الإنتماء والإعتقاد

منذ أن بدأت الجماعات البشرية بالتموضع والتجمع والإصطفاف تحت مختلف الرايات والتسميات والخيارات الفكرية على اختلافها ، تجذر في النفوس المزج العفوي والخاطئ بين الإنتماء إلى المجموعة وبين الإعتقاد بفكر تلك المجموعة.

فالشعور بالإنتماء لجماعة ما، يتوقف في تفاعله عند حدود تلك الجماعة التي اختار الفرد أن ينتمي إليها ، ويكون بذلك انتماءً إلى مجموعة من الأشخاص يلتقي معهم في ذواتهم بادئ ذي بدء، ليتحول لاحقا إلى عصبية آسرة، تسلب المرء حريته وترهنه لخيارات الجماعة وطقوسها ،حتى يكاد لا يفصل بين موقف الجماعة وبين موقفه بل وبين شخصه. إنها حالة سلب لفردية الفرد وخصوصيته تخضعه بشكل سلبي لرأي وإرادة الجماعة المجتمعة بالعصب والمصلحة والعاطفة وحدود الموطن.

في هذا الوصف يصبح الإنتماء سجنا، مهما اتسعت حدوده الزمنية لناحية القدم، أم الديمغرافية لناحية الكثرة العددية وسعة الإنتشار. فالإنتماء إلى المكان مثلا،أو إلى العشيرة والعرق يتخطى كونه رابطا اجتماعيا وعاطفيا ، ليصبح لاحقا مصدرا قيميا تستوحى منه القيم وقواعد السلوك التي لا ينفك الفرد يقع في أسرها. فأبناء العرق الفلاني مثلا، لا يكتفون بتمجيد عرقهم والتعصب له ، بل نراهم ينسفون وينسخون ما للأعراق الأخرى من فضائل ويحتكرونها لعرقهم، وذلك في تصرف عصبي أناني يصب في خدمة الأنا الشخصية لأفراد هذا العرق، وبالتالي الأنا الجماعية لأولئك الأفراد، الأمر الذي يجعل هذه المجموعة المتعصبة لأفرادها واجتماعها على السواء تتمحور في تفاعلها مع العالم حول نفسها مهما اتسعت الرقعة الجغرافية التي تشغلها ، والتي تبدو لأصحابها وكأنها العالم بأسره.أما أخطر ما ينتج عن الشعور بالإنتماء  والتعصب له، هو إسقاط القيم الانسانية والإجتماعية العامة على قيم هذه المجموعة أو تلك بحيث يتحول المجتمع والحال هذه إلى مجتمع ذي عقيدة خاصة به، مصدرها خصائص وعادات وتقاليد هذا المجتمع، مما ينعكس انعزالا فكريا عن المجتمعات الاخرى والعيش في مسيرة تتخطى التنافس والتفاعل الإيجابي لتصل إلى التنافر والتصادم، ليس على المصالح والمكاسب وحسب، بل حول القيم والمعتقدات وطرق العيش ، وهذه من أخطر تداعيات الإنتماء العصبي الضيق.

في المقابل يظهر الإعتقاد الحر، كمحور للإلتقاء البشري الأوسع ، ولعل الإعتقاد الديني هو الدائرة الأوسع نطاقا وانتشارا بين سائر المعتقدات الإجتماعية ذات المصدر البشري  .

بدراسة المعتقدات الدينية لا سيما السماوية منها، نجد أن أنها تنطلق من هرم قيمي يحاكي الفكرة البكر، ويرافق تطورها وعلاقتها بالمجتمع وتفاعله معها. وعندما يعتقد الكائن البشري الإجتماعي بفكرة ما، فإن أول ما يكسبه هو الإنتماء إلى الفضاء الواسع الذي تتحرك فيه هذه الفكرة مثالا أو أسلوب عيش وتفكير. من أهم ما يضيفه الإعتقاد أو يمنحه للفرد هو التحرر من حدود المكان والزمان وعصبية الجماعة، فيحل الإنتماء للفكرة والإعتقاد بها محل الإنتماء للمجموعة البشرية والتعصب لها. فالعدالة والحرية والكرم والتسامح والخير والمحبة والكرامة، كلها قيم إنسانية سامية تجسدت بأفكار ونظم إجتماعية ونواميس خارج حدود الشخص والزمان والأمكنة . إنها الفضاء الذي يلهم حركة الوعي البشري المنطلق، ويحدد حركة السلوك البشري في منحى اختياري حر يختاره من يؤمن به ويعتقد.

لهذا كله، نرى أن المبشرين اليوم بالاديان والعقائد على اختلافها واتفاقها، لا يزالون يتحركون في عملية التبشير من منطلق الإنتماء للجماعة بتاريخها وجغرافيتها مع ما يفرضه ذلك من حدود نفسية بين المجتمعات المختلفة والمتعددة، وما يعكسه من نفور بين أفراد تلك المجتمعات وبين المجتمعات الأخرى حول هذه الفكرة أو تلك، مهما سمت قيمتها وعمق تأثيرها في النفس والمجتمع. بينما نرى أن الصحيح ، بل الأصح هو أن يتحرك المبشرون بأي رسالة كانت، سماوية أو وضعية،دينية أو سياسية، انطلاقا من الفكرة السامية المجردة التي لا تعرف الحدود ولا الأشخاص ولا الأعراق ، الامر الذي يحرر الفرد من قيود الإنتماء والإنعزال والعصبية، ليرتقي في انتمائه كما اعتقاده إلى سمو القيمة المطلقة، التي قد يجدها عربيٌ في آخر أعجمي أو يراها  مسلمٌ في المسيحية أو يراها مشرقيٌ في أقاصي الغرب دون أن يضيره الإعتقاد بها والعمل بوحيها.

في الختام، وفي خلاصة ما نريد الوصول إليه، أن المعتقدات الدينية والمذهبية والسياسية مهما ضاق نطاقها، صالحة في جوهرها أن تتعولم فيما لو اعتنق المؤمنون بها جوهر العقيدة لا هويتها ومسمياتها وأشخاصها، ودون أن يجري إسقاطها على مجموعة بشرية محددة ونسخها عن اخرى.

أنا أنتمي في اعتقادي إلى كل قيم الخير والمحبة في فضاء الإنسانية الرحب ولا أرضى أن يحدّ انتمائي عائلة أو عشيرة أو حتى ديانة ووطن .

ســامـي الجــواد

 26\11\2011