أما وقد تحقق الحلم المصري في التغيير والتحرر، فإن الأنظار تنشد منذ اللحظة إلى المشهد السياسي العام في المنطقة العربية وإلى انعكاس عودة ثمانين مليون عربي إلى ميدان العمل العربي المشترك سواء في العلاقات العربية العربية أم في ميزان القوى المتصل بالصراع العربي الإسرائيلي. إن الإنعكاس المنتظر أو المرتقب للتغيير الحاصل في مصر إنما ينسحب بنظرنا على خمسة جوانب رئيسية منها المحلي المصري ومنها الإقليمي والدولي وهذه الإنعكاسات هي : أولا: تفاعل الشعب المصري مع حريته المستعادة بعد ما يزيد عن ثلاثة عقود من القمع الفكري والسياسي الذي استوجبه فرض معاهدة كامب دايفيد من جهة وضمان استمرار الحاكم الفرد في إمساك مفاصل السلطة ومصادرها ونهب ثرواتها من جهة ثانية. أن الشعور الجديد بالحرية يعني ولادة جديدة للهوية المصرية العربية سواء على المستوى الفردي للمواطن المصري أم على مستوى الدور السياسي المصري العام . إن النخب المصرية على اختلاف مشاربها وعقائدها لا شك سوف تتفاعل إيجابيا معا في تنافس طبيعي وديمقراطي لا بد وأن يتبلور في مشاريع سياسية تتجسد بدورها طبقة سياسية واعية واعدة تستطيع أن تعوض للمصريين ما فاتهم طيلة العقود الثلاثة المنصرمة من الإجحاف في الحقوق السياسية والفكرية وحتى المعيشية في حدها الأدنى. ثانيا: إنعكاس التغيير المصري على الدور المصري ضمن المنظومة العربية على المستوى السياسي وضمن الوجدان العربي التائق إلى أبسط مظاهر القوة والحرية. فالنظام المصري المندحر قد أبعد مصر عن مسار الأحداث العربية الداخلية وصار الدور المصري ملحقا في غالب الأحيان بالدور السعودي . وإذا لاحظنا الأزمات المتعاقبة التي حلت في السودان والذي يشكل المدى الحيوي والإستراتيجي الأهم لمصر، نجد أن الدور المصري غائب أو غير فاعل على الأقل في انكفاء أشبه بانشغال الرجل المريض بتفاصيل مرضه وعلاجه ، في حين نرى أن دولة قطر ذات المليون مواطن ونيف تلعب دورا محوريا في مختلف القضايا والأزمات التي تحيط بها وإن لم تكن على تماس مع مصالحها القومية المباشرة. فمن الوساطات المتعددة في الشأن اللبناني والفلسطيني والسوداني إلى الدور التوفيقي بين المملكة العربية السعودية وبين سوريا بالإضافة إلى الحضور البارز في المحافل والمؤتمرات الدولية.الموقف المصري المرتقب سيعيد إلى الساحة العربية لاعبا أساسيا من شأنه أن يضيف عامل قوة جديد في حركة التفاعل العربي. ثالثا : حتمية تأثير تغيير السلطة في مصر على علاقتها بالكيان الإسرائيلي . فالوجدان المصري العربي العام وإن تأثر بعوامل القهر السياسي الذي مارسه النظام الأمني وبالفقر المدقع المتأتي من الفساد وسوء الإدارة وسياسة التجويع، إلا أنه لا شك وجدان تتجذر فيه المشاعر والقيم القومية العربية بالإضافة إلى الإحساس بالمسؤولية إزاء القضايا العربية المشتركة، لا سيما ما يتصل منها بالصراع العربي الإسرائيلي .فإذا استطاع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بوصفه اليوم المؤتمن على استيلاد الشرعية الدستورية والشعبية وتكريس الديمقراطية في السلطة العتيدة ، إذا استطاع هذا المجلس أن يمهد لمجلس نيابي جديد صحيح التمثيل فإنه لا شك لن يتغاضى عن تعديل المعاهدات والأتفاقيات المعقودة مع الكيان الإسرائيلي إن لم نقل إلغائها. إن الموقف المنتظر من الحكومة المصرية العتيدة والمنبثقة عن الظروف الجديدة سيكون الموقف المفصل في إعادة رسم خريطة المنطقة وصياغة موازينها وتوزيع الأدوار السياسية فيها. فمعادلة لا حرب من دون مصر لم تعد قائمة ولم يعد للغول الإسرائيلي حرية التحرك والشعور بالأمان، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى إعادة تأكيد الهوية العربية للمنطقة بأسرها بكونها منطقة المشرق العربي لا الشرق الأوسط الجديد. ولو لاحظنا الفرق بين المخاضين التحرريين التونسي والمصري سواء لناحية المدة التي استغرقها حصول التغيير أم لناحية الإهتمام العربي والدولي بالحدث ،بالإضافة إلى محاولة الرئيس المصري المخلوع وفريقه الإستفادة القصوى من الوقت ،ندرك أن المسألة تعود للوضع الجيوبوليتيكي الخاص لمصر أولا ،وللمعاهدات التي تربطها بالعدو الإسرائيلي ثانيا. وهنا تبرز أهمية فشل المحاولات الأميركية التي نفذها مبارك وسليمان في تقديم تغيير وهمي للمصريين يسكت شارعهم أو يربكه بالحد الأدنى ويضمن المصالح الأميركية والإسرائيلية في آن . رابعا: يتمثل الإنعكاس الرابع للتغيير المصري باستعادة القومية العربية للوهج الذي افتقدته لعقود خلت لا سيما بعد رحيل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وبعد مسلسل الهزائم و الإخفاقات العربية الذي انتقلت من الميدان إلى الداخل العربي عبر المعاهدات الجائرة بدءا من كامب دايفيد مرورا بوادي عربة و وصولا إلى أوسلو ناهيك عن تبرع بعض الدول بفتح مكاتب تمثيلية لإسرائيل في ضربة إضافية لأبسط مظاهر التضامن العربي مما انعكس إحباطا عربيا وكفرا بالقومية العربية وبالإنتماء لها . إن استعادة هذا الوهج للقومية العربية لا يعني بنظرنا نظم القصائد والتغني بالأمجاد ، إنما نراه انتشار الشعور القومي العربي العام بالإنتماء إلى هوية عربية واحدة تتعدد في إطارها الإنتماءات القطرية والمعتقدات الدينية والمذهبية. ولا نبالغ هنا لو قلنا بأنه لو لم يكن للثورة المصرية إلا هذا الإنجاز لاعتبرناه إنجازا عظيما يستحق التضحية لأجله وللحفاظ عليه. إن من أهم أسباب بروز وانتشار الحركات الأصولية واستشراء الفتن المذهبية هو انهزام المشروع العربي في مواجهة إسرائيل وفشل الأنظمة العربية في قيادة هذا المشروع أو على الأقل في اتخاذ موقف عربي موحد إزاءه .لقد قايض معظم القادة العرب مع دول النفوذ والإستعمار ضمان إستمراريتهم في الحكم مقابل التخلي عن عن القضية العربية المحورية التي كانت قبلة أنظار المناضلين العرب وعروس الشعر الوحيدة . وبالمراجعة السريعة لحركات التحرر الشعبية نلاحظ تعاظم الدور الأيديولوجي الديني في رفد تلك الحركات كالثورة الإسلامية في إيران والمقاومة الإسلامية في لبنان وحركتي حماس والجهاد في فلسطين دون أن ننسى اللإنتشار المتزايد للإخوان المسلمين في كل من مصر وسوريا والأردن وكذلك حركات التحرر في الجزائر واليمن والمقاومات العراقية غير معروفة العدد . ولو لاحظنا في المقابل انشداد الشارع العربي بكل تلاوينه الدينية والمذهبية والسياسية للحدث المصري ،بالإضافة إلى الموقف الإيراني ولو اختلف القصد والمنطلق ، للمسنا كيف طغى الشعور الإنساني والقومي على ما دونه من انتماءات حيث اتسعت العباءة القومية لكل المذاهب والتيارات . وفي مشهد آخر فإننا لا نرى الإنجاز المصري الذي كان بالأمس القريب شارعا سنيا بأقل أهمية من الإنجاز اللبناني العظيم في تحرير الأرض والذي ألبس بدوره لبوسا شيعيا ، الأمر الذي يدحض المزاعم التي تحتكر لهذا المذهب أو ذاك القدرة على قيادة المجتمع نحو التحرر أو نحو مقاومة العدو الإسرائيلي حيث يلتقي حزب الله في لبنان مع حماس في فلسطين المحتلة. وعليه فإنه بإمكان الشعور القومي فيما لو استعاد وهجه وحضوره نفسيا في الوجدان العربي وعمليا في ميدان الصراع وميزان القوة، بإمكان هذا الشعور أن يخفف من غلواء الطائفية والمذهبية تمهيدا لمحوها من النفوس .وإذا صحت هذه المعادلة فإن استعادة الغطاء القومي للصراع العربي الإسرائيلي يشكل الرد الأقسى على وجود دولة تقوم على العنصرية الدينية في وسط قومي واحد تتعدد فيه الأديان وتتفاعل وتتعايش ،لا سيما أن كانت هذه الدولة المصطنعة لا تمثل انتماءا قوميا لسكانها ولن نقول لشعبها لأنهم مجموعة يهود متعددي القوميات حيث لا وجود للقومية الإسرائيلية أصلا. خامسا : يتجلى الإنعكاس الخامس للحركتين التونسية والمصرية في ظهور بشائر انتقال عدوى التحرر في العديد من الدول التي بادر حكامها إلى إجراء الإصلاح أو إعطاء المعونات أو توسيع هامش الحرية السياسية لبعض الناشطين. والأهم من ذلك هو استنشاق المواطن العربي لهواء الحرية .ولا يستقلن أحد بقوة الحرية وتأثيرها في الأفراد والمجموعات. إنها المدخل المباشر إلى الإبداع والتقدم والسعادة . إن الأمل معقود اليوم على نجاح الثورة المصرية في تكريس التغيير الحاصل على مستوى الرئاسة لترسيخه عموديا وأفقيا ،فعودة ثمانين مليون عربي إلى الساحة سيفرض على الجميع في الداخل والجواروفي الخارج إعادة النظر في تقاطع المصالح وبالتالي في رسم السياسات والأهداف ،الأمر الذي لا شك سيغير وجه المنطقة ويصوب وجهتها. في الختام لا بد من توجيه التحية إلى الشعبين التونسي والمصري الذين قد يكونا فتحا للأمة بابا لاستعادة مجد تشتاق إليه. المجد للشهداء الذين سقطوا في لبنان ومصر وتونس وفلسطين لتحيا أوطانهم . ســامـي الجــواد 12/02/2011